هلاوس المخ أو الفصام هو
المرض الذي يطلق عليه خطأ اسم «شيزوفرينيا»، وصحته انقسام الشخصية التي يعتبرها العلماء
مرضًا نفسيًّا بينما الفصام مرض عقلي، وتصل نسبة انتشاره إلى 1% من مجموع أي شعب من شعوب الأرض. فى مصر وحدها
600 ألف فصامي، مائة ألف يعالجون والباقون - نصف مليون - يعيشون وسطنا دون علاج؛
بينما يبلغ الرقم في الولايات المتحدة مليوني مصاب بالفصام. وبالرغم من الضجة التي
أحدثها علم النفس في كشف هذا المرض، وخاصة مدرسة (التحليل النفسي) التي نسب تأسيسها
للعالم النمساوي سيجموند فرويد (1856-1939) في القرن التاسع عشر الميلادي، فـإن علم
النفـس والتحليل النفسي، كان قد ظهر، ومارسه ببراعة ابن سينا قبل فرويد بأكثر من
ثمانية قرون وقد صنف (مائتين وستة وسبعين كتابًا، وعــدة رسالات) في حياته وكان لمؤلفاته
أثر كبير في نهضة أوربا العلمية.
ابن سينا شخصية إسلامية
من العصر الأندلسي، ولد في خرميثن عام 370هـ من أسرة فارسية تسودها تقاليد فارسية
صارمة تشتغل بخدمة الدولة. درس ابن سينا الفيزياء والرياضيات والفلسفة والتحليل النفسي،
كما برع في الطب براعة منقطعة النظير وذاع صيته وهو لا يزال في السادسة عشرة من عمره
مما يدل على ذكاء و نبوغ نادرين ولذلك لقب بالشيخ الرئيس.
بدأت شهرة ابن سينا تنتشر
عندما اشتد المرض على الأمير (نوح بن نصر الساماني) الذي طلب من ابن سينا أن يعالجه،
فعالجه حتى شفى من مرضه، وكان للأمير مكتبة ذائعة الشهرة تضم كتبًا نادرة في العلوم
كافة فتفرغ ابن سينا للاطلاع عليها ولتحصيل مختلف العلوم. وعندما اضطربت أحوال الدولة
السامانية وتوفى والده وكان في الثانية والعشرين من عمره، فذهب إلى همذان وصار وزيرًا
لشمس الدولة (أبي طاهر الديلمي) صاحب همذان وعراق العجم، لكن عسكر شمس الدولة ثاروا
عليه ونهبوا داره وقبضوا عليه فنفاه شمس الدولة إرضاءً لهم، وسرعان ما أعاده الأمير
نوح إليه حين عاوده المرض. وبعد موت شمس الدولة ذهب ابن سينا إلى أصبهان، فأحسن إليه
الأمير (أبو جعفر علاء الدولة) فأكرمه وبقى عنده معززًا مكرمًا، وقد صنف مائتين وستة
وسبعين كتابًا وعدة رسالات في حياته، وكان لمؤلفاته أثر كبير في نهضة أوربا العلمية.
وفلسفة ابن سينا تدرس في
أكثر الجامعات الأوربية وكل الجامعات الكاثوليكية إلى يومنا هذا، ومن أشهر مؤلفاته
رسالتا "القوى النفسانية" و"النفس الناطقة"، وكتاب "الشفاء"،
و"الإشارات في الحكمة والفلسفة"، وكتاب "القانون في الطب" الذي
يعد المرجع الأول في الطب بالجامعات الأوروبية
وخاصة "مونيلييه" حتى أواخر القرن الثامن عشر.
هناك اكتشاف حديث أمكن من
خلاله تصوير المخ أثناء الهلاوس التي تصيب المريض عن طريق جهاز البث البوزيتروني،
وقد أثبتت الدراسة أن مرض الفصام يحدث نتيجة لخلل في المتشابكات العصبية في المخ
سببه خلل في كيمياء الخلايا العصبية. وأهمية الوصول إلى هذا الاكتشاف أنه إضافة جديدة
تساعد على علاج مرض الفصام الذي من أهم أعراضه إصابة الإنسان بنوع من أنواع الهلاوس،
بمعنى إدراك أشياء غير موجودة، فإذا سمع أصواتًا لا يسمعها سواه ... تسمى هلاوس سمعية،
وإذا رأى أشياء لا يراها غيره، تسمى هلاوس بصرية. وقد تكون هذه الهلاوس حسية أو شمية.
وبصفة عامة فإن الفصام، كمرض عقلي، يتميز بثلاثة أنواع من الأعراض: اضطراب في التفكير،
واضطراب في السلوك، وأخيرًا اضطراب في الإدراك؛ إذا لم يعالج فإنه ينتهى بتدهور في
الشخصية.
في السنوات العشر الأخيرة
حدثت طفرة كبيرة في الأجهزة الدقيقة التي أمكن من خلالها رؤية المخ أثناء تأديته
لوظائفه، ويتم ذلك بعد حقن المريض بمادة معينة مشعة تظهر في المخ حسب المكان المطلوب
تصويره فيأخذ لونًا وشكلاً معينًا، ويطلب من كل مريض أن يضغط على "زر"
معين بإبهامه إذا ما سمع أو رأى أو أحس بأى شيء، فيبدأ الجهاز في تصوير وتسجيل كل
ما يحدث في المخ تشريحيًّا بحيث يمكننا معرفة
أي مكان من أجزاء المخ ينشط أثناء أداء وظيفة
معينة مثل السمع أو التفكير أو الرؤية، ويكون ذلك بتصوير كمية الدم المتدفق إلى هذا
الجزء. وفي البحث الذي أعلن أخيرًا، أجريت دراسة على مجموعة من مرضى الفصام، حيث
صور المخ أثناء أدائه لوظائفه.
الهرمون الأنثوي
يحمي المرأة
وجد العلماء بعد دراسة هذه
الصور، أن المريض بالهلاوس السمعية تحدث له زيادة في نشاط الفص الصدغي المسؤول عن
السمع في المخ إذا ما سمع أصواتًا، وإذا ما رأى خيالات وجد أن التنبيه حدث في الفص
الخلفي في مؤخرة المخ المسؤول عن الإبصار، أما إذا كان شعور المريض هو أن هناك من
"يقرصه" أو يعضه أو يسبب له ألمًا، وجد أن المكان الذي توهج هو الفص الجداري.
معنى هذه الدراسة أن الهلاوس
السمعية والبصرية والحسية ما هي إلا خلل في الوصلات الكهربائية الموجودة في الخلايا
العصبية بالمخ ، أدى إلى أنها تعمل دون أن يكون هناك سبب لعملها، فيسمع المريض صوتًا
غير موجود أو يرى صورًا ليس لها أساس أو يشعر بأحاسيس ليس لها مصدر.
وقد أضافت أجهزة تصوير المخ
في السنوات الأخيرة الكثير من المعرفة للخلل الكيميائي المخي وإحداث ثورة في الطب
النفسي وعلاج كيمياء المخ، خاصة زيادة مادة السيروتوجين ومن قبلها مادة الدوبامين.
وأصبح عن طريق هذه الأجهزة تقسيم أنواع مرض الفصام إلى ثلاثة أنواع:
مرض يتميز بأعراض سلبية،
الخلل موجود في الجزء الخلفي من الفص الأمامي، وحتى سنوات قليلة مضت لم يكن هناك
علاج لهذا النوع من الفصام، الآن أصبح الأمل في شفاء هؤلاء المرضى كبيرًا جدًا بوجود
العقاقير التي تعمل على مادتي الدوبامين والسيروتوجين.
مرض يتميز بالهلاوس والصلالات
وهو عادة يستجيب للعقاقير التي تعمل على الدوبامين، والخلل فيه موجود في الفص الصدغي
لفص المخ السائد.
أما النوع الثالث والأخير
فيتميز بخلل التفكير، واستجابته للعلاج أقل من النوعين السابقين، والخلل فيه موجود
في الفص غير السائد في التلفيف الحزامي في الفص الصدغي.
ويلعب العامل الوراثي دورًا
في الإصابة بهذا المرض في %40 من الحالات، أما العوامل البيئية فهي مسؤولة عن مسببات
المرض في %60 من المرضى؛ معنى ذلك أنه إذا كان أحد الوالدين مصابًا بالفصام فإن نسبة
إصابة الأولاد تكون من %12 : %15، أما إذا كان الاثنان مصابين فإن نسبة الإصابة في
الأولاد ترتفع لتصل إلى %40 وهي نادرة الحدوث. وإذا كان المصاب أحد الأولاد، فإن
نسبة إصابة بقية الأخوة تكون %10؛ وإذا كان الجد هو المصاب، فإن نسبة إصابة الأحفاد
تصل إلى %3. وقد اكتشف في السنوات الخمس الأخيرة أن الفصام مرض يولد الإنسان باستعداد
للإصابة به، ثم تأتي عوامل بيئية لتفجره. ومن أهم هذه العوامل: الخلل الذي يصيب الجهاز
العصبي للطفل أثناء الحمل أو الولادة، أو إذا أصيب الطفل بفيروس أو التهاب قد يؤثر
على الاستعداد الذي ولد به يؤدي إلى إصابته.
من المعروف أن %75 من حالات
مرضى الفصام تحدث من سن 15 إلى 35 سنة، أي فى مرحلة الشباب، والرجال معرضون للإصابة
أكثر من النساء بسبب هرمون الأستروجين الذي يعطي المرأة مقاومة لمرض الفصام؛ فقد
وجد أن الهرمون الأنثوي مضاد لمادة الدوبامين، لكنهما يستويان بعد انقطاع الطمث عند
المرأة.
بعد الطفرة الكبيرة التي
حدثت في الفترة الأخيرة في اكتشاف الخلل الكيميائي في المخ والعقاقير الجديدة، يمكن
القول إن %25 من مرضى الفصام سيتم شفاؤهم تمامًا دون احتمال التعرض للنكسات، و%50
أخرين يكونون عرضة للنكسات ويحتاجون لبعض العلاج لمدة طويلة حتى يتوافقون مع المجتمع.
معنى هذا أن %75 من مرضى الفصام يستطيعون
الحياة بصورة طبيعية. ويبقى %25 وهم عادة من مرضى اضطراب التفكير الذين يحتاجون إلى
علاج دوائي طويل ومساعدة ودعم عائلي متفهم لطبيعة المرض.
الاضطرابات الكيميائية
للخلايا العصبية
الجديد فى علاج مرضى الفصام
الذين يحتاجون لفترة طويلة من العلاج، هو محاولة رفع وعي أسرة المريض بضرورة الاستمرار
في إعطاء الدواء وعدم التوقف عنه فور تحسن الحالة؛ والسبب أن علاج الخلل الكيميائي
يتطلب بعض الوقت الذي قد يصل إلى خمس سنوات، خاصة وأن التركيب الكيميائي للخلية العصبية
تكتنفه بعض الأسرار التي لم يستطع العلم سبر غورها. فهي لا تزال لغزًا محيرًا للعلماء
لأنها معقدة التكوين، وديناميكية عملها تحمل الكثير من الغموض. فالخلايا العصبية
تعمل بصورة مجتمعة، متكاملة، متناغمة، متفاهمة؛ أي أن هناك نوعًا من التفاهم والترابط
بين الخلايا له هارمونية دقيقة، ولكي يتم ذلك لابد من انتقال إشارة ما بين الخلايا
العصبية حاملة الأمر المراد عن طريق ما يسمى بالناقلات العصبية (Neurotransmitters)، وهي مجموعة من المواد الكيميائية التي تفرز من خلية عصبية لتؤثر
على خلية عصبية أخرى. وجاءت تسمية هذه المواد بالناقلات العصبية لأنها مسؤولة عن
نقل الأمر العصبي من خلية إلى أخرى، سواء كان أمرًا بالتحفيز (Excitatory) أو التثبيط (Inhibitory). تصنع هذه المواد وتخزن وتفرز بواسطة الخلية العصبية نفسها، فالخلية
العصبية تحتوي على الإنزيمات المطلوبة لتصنيع الناقلات العصبية، وحويصلات دقيقة لتخزين
المواد التي تم تصنيعها تمهيدًا لإفرازها عند وصول الأمر بذلك. تخرج المواد المختزنة
من نهايات الخلايا العصبية (Nerve Terminals) إلى خارج الخلية لتصل إلى الخلايا
المجاوزة، وعملية الخروج هذه تتم بميكانيكية معقدة تنتهى بانفجار الحويصلات الممتلئة
بالناقلات العصبية على جدار الخلية وانطلاق المواد لمختزنة إلى الخارج.
تؤثر هذه المواد بعد إفرازها
على الخلايا المختلفة عن طريق اتحادها بمستقبلات (Receptors) خاصة على سطح الخلية المستهدفة، وكل ناقل عصبي له المستقبل الخاص
به، مما يضيف نوعًا من التخصصية في عمل الناقلات العصبية، أو بمعنى آخر يؤثر الناقل
العصبي فقط على الخلايا التي تحمل المستقبل الخاص به، ولا يؤثر على الخلايا التي
لا تحتويه. وبعد إحداث التأثير المراد على
الخلية، ينتهى عمل المواد إما بإعادتها مرة أخرى إلى الخلية التي أفرزتها وتخزن مرة
أخرى تمهيدًا لإعادة استعمالها، أو يتم تكسيرها بواسطة إنزيمات خاصة خارج الخلايا.
يتضح من ذلك أن الخلية العصبية ليست خلية عادية فحسب، بل هي معمل متطور لإنتاج وتخزين
وإفراز والتخلص من المواد الكيميائية المطلوبة لتنظيم عملها.
ولعل من أهم الناقلات العصبية
في المخ هي الأحماض الأمينية (Amino Acids). وتقسم على حسب وظيفتها إلى
أحماض أمينية محفزة (Excitatory Amino acids)، أي التي تحفز الخلايا و تنشطها،
والأحماض الأمينية المثبطة (Inhibitory Amino Acids)، التي تقلل من نشاط الخلايا
التي تعمل عليها.
ويمكن القول إن مادة الجلوتامات
(Glutamate) هي أهم الأحماض الأمينية المحفزة، فهي المسؤولة عن تنشيط الخلايا
العصبية واستثارتها. كما برزت أهمية الناقل العصبي الذي يدعى الأسيتيل كولين (Acetyl choline) في السنوات الأخيرة عندما اكتشفت علاقته المباشرة بمرض الألزهايمر
(Alzheimer`s
disease)، فالنظرية الأساسية التي تفسر
طبيعة المرض تقول إن مرض الألزهايمر يحدث نتيجة ضمور الخلايا التي تفرز الأسيتيل
كولين مما يؤدي إلى هبوط تركيز هذه المادة في المخ، وهذه النظرية تفسر تحسن مرضى
الزهايمر عند إعطائهم ما يسمى بالأنتي كولين إستراز (Anticholineesterase)، وهي أدوية توقف عمل الإنزيم المسؤول عن تكسير الأسيتيل كولين،
مما يؤدي إلى المحافظة عليه في المخ وزيادة تركيزه.
ولا يمكن إغفال دورة مادة
النورادرينالين (Noradrenaline) في المخ، فهي من المواد التي
تحفز الناحية المزاجية (Mood) في المخ، ونقصها يؤدي إلى مرض
الاكتئاب (Depression) عند هبوط مستواها في المخ، والعكس
صحيح فزيادة نسبة النورادرينالين في المخ تؤدي إلى حالة مرضية تسمى لوثة الهوس (Mania) أو الهلاوس المخية المصاحبة بارتفاع مرضي في المزاج.
هناك أيضًا مادة السيروتونين
(Serotonin)، وهي ناقل عصبي مهم مسؤول عن تنظيم كثير من وظائف المخ، أهمها التحكم
في الحالة النفسية. والمعروف أن الإفراط في عمل السيروتونين يؤدي إلى مرض الفصام
(Schizaphrenia)، وهذا يفسر الاستخدام الشائع لمضادات السيروتونين في علاج الفصام.
بالإضافة إلى المواد السابقة
هناك الكثير من الناقلات العصبية لا تزال دراستها محط اهتمام كثير من الدراسات البحثية،
ليس فقط لكشف طبيعتها البيولوجية ولكن لمعرفة دورها في الحالات المرضية ومن ثم فتح
آفاق علاجية جديدة.
------------------------------------------ * عميدة كلية العلوم الفيزيائية بالجامعة اليابانية المصرية وكاتبة علمية.
http://www.alarabimag.com/science/Article.asp?Art=412&ID=15
|
|
الاثنين، 20 يناير 2014
التاريخ الطبي لهلاوس المخ
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)