الاثنين، 20 يناير 2014

نظام التزاوج وتباين الثدييات


الإنسان حيوان ثديي ناطق له أقرباء أو أبناء عمومة من الثدييات من القردة العليا والرئيسة، بمعنى أنهم جميعًا كان لهم في مرحلة من تطور الحياة سلف مشترك واحد، وقد يبدو أثر ذلك في تطور حياة الإنسان وسلوكه.
حتى وقت قريب كانت معظم المعلومات عن القردة العليا والرئيسية تُستقى من ملاحظة هذه الحيوانات وهي واقعة في أسر الإنسان، ويراقب سلوكها في أقفاص حدائق الحيوان، وهي بيئة تختلف اختلافًا بينًا عن البيئة البرية الطبيعية وكثيرًا ما تؤدي إلى سلوك غير طبيعي للحيوان. ومنذ حوالي منتصف القرن العشرين أجريت أكثر من دراسة علمية دقيقة لوحظ فيها سلوك هذه الحيوانات في حياتها البرية العادية دون تدخل بشري ملحوظ، لعل أشهر هذه الدراسات دراسة (جين جودال) على مجتمعات الشمبانزي البرية في تنجانيقا، والتي استمرت لما يقرب من نصف القرن. بينت دراسات جودال وغيرها أن مجتمعات هذه الثدييات فيها أنظمة تكاثر وتزاوج مختلفة، لعل النظام الغالب بينها هو الزواج الأحادي بمعنى زواج ذكر واحد بأنثى واحدة، حتى أن قردة الجيبون مثلا تبدي إخلاصًا كاملاً في هذه الزيجات الأحادية مهما طال زمنها. على أن قردة الشمبانزي أكثر تسيبًا عن ذلك في ممارسة الجنس بلا تمييز.
مجتمع الشمبانزي بصفة عامة أميل للنزعة البطريركية أو لتسيد الذكور وتظهر فيه اتجاهات عدوانية تتبلور في تجمعات عدوانية تمارس حروبًا بدائية مع المجموعات الأخرى. هناك أيضًا قردة البونوبو التي تشبه في شكلها الشمبانزي إلى حد كبير، ولكنها أقل حجمًا، وأقل عدوانية وأكثر تمركزًا على الإناث أو أميل إلى النزعة الماترياركية. يرى بعض العلماء أنه إذا كان الشمبانزي يحل قضاياه الجنسية بالقوة، فإن قرود البونوبو تحل قضايا القوة بالجنس. الجنس عند البونوبو أسلوب للتفاعل الاجتماعي يكاد يشبه استخدام الإنسان للنقود!
الغوريلا، بخلاف الشمبانزي والبونوبو، تظهر تباينًا ملحوظًا بين شكل وحجم الذكور والإناث، فذكر الغوريلا يبلغ وزنه ضعف وزن الأنثى. تتبع الغوريلا نظام زواج الحريم أو تعدد الزوجات. هناك ذكر واحد يسيطر على عدد من الإناث يشكلن حريمه الخاص، ولا يقترب من الإناث أي ذكر آخر وإلا تعرض لقتال عنيف مع صاحب الحريم. من الثدييات التي تتبع أيضًا نظام الحريم في التزاوج حيوانات فقمة الفيل، وهي أبعد نوعًا في قرابتها للبشر، على أن ذكورها مثل ذكور الغوريلا ضخمة وقد يصل وزنها إلى أربعة أمثال وزن الإناث.
لدينا هكذا مجتمعات ثدييات لها نظم تكاثر وزواج مختلفة. هناك نظام زواج أحادي أو زواج ذكر واحد من أنثى واحدة، ثم هناك زواج الحريم أو تعدد الزوجات الإناث لذكر واحد قوي مسيطر، ثم نظام تعدد الأزواج. ترى ما أهم العوامل التي لها دور في تحديد هذه النظم. الواقع أن الأوضاع معقدة نوعًا وهناك أكثر من عامل واحد مهم، وهذه النظم كلها تؤثر وتتأثر جدليًّا بالتباين الجسدي (المورفولوجي) بين الذكور والإناث. يعتقد فيشر عالم التطور والإحصاء المشهور أن نظام الزواج الغالب هو الزواج الأحادي، خاصة أنه يرى أن معظم عشائر الحيوانات البرية لديها تقريبًا أعداد متساوية من الذكور والإناث. هناك سبب وجيه لذلك في التطور الدارويني. لو تخيلنا أن عشيرة حيوانات برية كانت أعداد الجنسين فيها غير متساوية، فإن أفراد الجنس الأقل أو الأندر يكون لديها في المتوسط ميزة تكاثرية تفوق بها أفراد الجنس الأكثر عددًا، وسبب ذلك حسب فيشر هو أن المجتمع عندها تغلب عليه نزعة الميل الاقتصادي للنوع الأندر، وهكذا فإن الانتخاب الطبيعي عند اختلال النسبة بين الذكور والإناث يعمل في التو على تصحيح هذا الخلل ليصل إلى تساوي النسبة بين الجنسين. النسبة الوحيدة المستقرة تطوريًّا بين الجنسين هي 50/50 أو التساوي بينهما.
على أن فيشر وجد أيضًا أن هناك عاملاً رهيفًا له دوره هنا. في حالة ذكور الغوريلا مثلاً يكون حجمها ضعف حجم الإناث، وتربية الابن ربما تكلف هنا ضعف تربية الابنة. هل يؤدي ذلك إلى اختلال نسبة الجنسين؟ هل سيكون من الأفضل تنشئة ذرية من إناث عددها أكبر وتكلفتها أقل؟ يرى فيشر أن النسبة الحقيقية التي يجعلها الانتخاب الطبيعي متساوية هي نسبة الإنفاق الاقتصادي لتنشئة أي من الجنسين، أو ما يسمى بلغة الاقتصاد الفرصة البديلة. الانتخاب الطبيعي يحبذ الميول الوراثية التي تؤدي إلى استثمار اقتصادي ينتج عنه غالبًا في النهاية أعداد متساوية من الذكور والإناث. مجتمعات الحريم يوجد فيها أقلية من الذكور تحتجز أغلبية من الإناث. هل يؤدي ذلك إلى انتهاك توقعات فيشر بتساوي نسبة الجنسين؟ الإجابة هي أن فيشر يتوقع استثمارًا متساويًا في الأبناء الذكور والبنات الإناث. السبب في أن حجم الذكور أكبر كثيرًا من الإناث هو أن الحجم الكبير يساعد الذكور على كسب الحريم. معظم صغار الغوريلا وفقمة الفيل تولد لأب قوي الجسم مهمته كسب القتال، وأم جعل حجمها الأمثل من أجل ولادة الأطفال وتربيتها. الخواص المفضلة التي تؤدي إلى الذكر الأمثل والأنثى المثلى تأتي من خلال انتخاب الجينات انتخابًا طبيعيا.
لدينا هكذا بعض تعميمات وعوامل علمية وإحصائية لها دورها في نظم الزواج في هذه المجتمعات، أحد هذه التعميمات أو العوامل المهمة هو وجود اختلاف أو تباين في الهيئة والتشكل (الموروفولوجيا)، بين الذكور والإناث. كلما زاد تشابه الشكل والتكوين الجسدي بين أفراد الجنسين زاد الاتجاه إلى الزواج الأحادي. الأنواع التي يتابين فيها أفراد الجنسين بوضوح، كأن يكون حجم الذكور أكبر بدرجة ملحوظة، تنزع إلى أن يكون لديها تعدد في الزوجات أو زواج حريم كما عند الغوريلا. أجريت دراسة عن علاقة تباين الجنسين في الحجم ومدى ما يوجد من مجتمع الحريم، وأجريت فيها مقارنة بين مقدار كتلة الذكور وحجم الحريم، واتضح من الدراسة وجود علاقة ترابط قوية بينهما عند الغوريلا والفقمة.
أما عند البشر فلاشك أن هناك بعض تباين موروفولوجي بين الذكور والإناث من البشر ولكنه تباين معتدل. قد تكون بعض الإناث أطول قامة من بعض الرجال، لكن متوسط قامة الرجال أطول بعض الشيء من متوسط الإناث. بعض الإناث قد تتغلب على بعض الرجال في الألعاب الرياضية كالقفز ورمي الرمح، لكن فرص الرجال للتفوق هي علميًّا وإحصائيًّا أوفر مما عند النساء. التباين الموروفولوجي بين الجنسين هو في الإنسان أقل مما في الغوريلا، لكنه أكبر مما عند الجيبون. ربما يعني هذا التباين البسيط أن لنا أسلاف إناث عاشت زمنًا في مجتمعات أحادية الزواج أو عاشت بعض الوقت في نظم حريم صغيرة. مرة أخرى الأمر أكثر تعقيدًا من أن يفسر بهذه البساطة، وهناك عوامل عديدة تتداخل هنا، مثل العوامل الإثنوجرافية والعقائدية ومكونات وعي الإنسان ومحاولاته لتغيير واقعه. هذا وقد أُجريت مؤخرًا دراسة مسح على عدد من المجتمعات البشرية يصل إلى 849 مجتمعًا مع حصر نظم الزواج فيها، وتبين أن 16 في المائة من هذه المجتمعات أحادية الزواج، وأن هناك نسبة أقل من 1 في المائة لها نظام تعدد في الأزواج الرجال، ثم هناك تلك النسبة الغالبة من 83 في المائة من المجتمعات وُجد أنها متعددة الزوجات، يصل عددها إجمالاً إلى 708 مجتمعات، نصفها تقريبًا تسمح فيها قواعد المجتمع بتعدد الزوجات، وإن كان هذا عند التطبيق العملي أمرًا نادرًا جدًا، والنصف الآخر يكون تعدد الزوجات فيه سلوك يمارس خفية وإن كان معترفًا به كمعيار قاعدي.
ضخامة ذكور الغوريلا لها أهمية خاصة في نظام تزاوج الحريم، لأن الذكور تكسب أفراد الحريم بالقتال فيزيقيًّا مع الذكور الأخرى. تباين حجم الذكور مع الإناث عند الإنسان أهميته أقل كثيرًا عما عند الغوريلا. على أنه إذا كانت ذكور الغوريلا تحتاج للحجم الضخم للحفاظ على الحريم، فإن ذكور الإنسان قد تتحكم في عدد كبير من الإناث أو الحريم ليس عن طريق القوة الفيزيقية، وإنما بسبب مكانة الذكور السياسية كأن يكون أحد الذكور من بين أعضاء هيئة الحكم أو الحاكم نفسه، ويمكنه هذا من إرهاب منافسيه بما يساوي أو يفوق الإرهاب الفيزيقي عند الغوريلا. أو أنه قد يكون هناك تباين عند الذكور بامتلاكهم لثروة أكبر، وقد قيل إن ذكور البشر لا يتحاربون من أجل الزوجات وإنما يشترونهن. هكذا فإن السلطة قد تتمثل في السيطرة الاقتصادية أو السياسية ويكون لها مظهر ثقافي أو حضاري وليس بفيزيقي. لعل أنصار الحركات النسائية يجدون بعض العزاء في أن التغلب على نزعة تعدد الزوجات ثقافيًّا ومجتمعيًّا قد يكون أسهل من التغلب على نزعة تعدد الزوجات بالقوة الوحشية.
هناك غير التباين المورفولوجي مؤشر بيولوجي آخر قد يكون له دوره في التطور البيولوجي في علاقات التكاثر والتزاوج، وهو مؤشر فيه بعض ما يثير الدهشة، إنه حجم الخصية عند الذكور مقارنًا بالحجم الكلي لجسم الحيوان، قرود الشمبانزي أقرب القرود العليا للإنسان، وخصية أفراد الشمبانزي حجمها بالغ الكبر خاصة عند مقارنتها ببقية جسدها. من الناحية الأخرى نجد أن حجم الخصية عند ذكر الغوريلا البالغ الضخامة أصغر مما عند ذكر الشمبانزي. يطرح البيولوجي البريطاني روجر شورت تفسيرًا لكبر حجم خصية الشمبانزي، وهو أن أنثى الشمبانزي أثناء فترتها النزوية «oestrus» تمارس طبيعيًّا عمليات الجماع مع أكثر من ذكر واحد، بينما أنثى الغوريلا تنتمي لذكر واحد. الحيوانات المنوية التي يقذفها أحد ذكور الشمبانزي في مهبل الأنثى عليها أن تقاتل لتنافس الحيوانات المنوية الآتية من العديد من الذكور الأخرى لنفس المهبل. من هنا تكون أهمية قوة الحيوانات المنوية والتي لابد وأن تنتجها خصية قوية كبيرة. أما عند الغوريلا فإن التنافس بين الذكور يجري بالقتال الذي تلزم له أجساد قوية ضخمة، هكذا فإن التباين المورفولوجي يؤثر ويتأثر جدليًّا بنظام التكاثر والزواج.
أجريت بعد ذلك دراسة مسح للمقارنة بين كتل الخصى وكتل الجسم في أنواع متعددة من الرئيسيات، واتضح منها وجود زيادة كبيرة في حجم الخصية في الحيوانات التي تمارس إناثها الجنس مع أكثر من ذكر مثل الشمبانزي، بينما يكون الحجم صغيرًا عند الحيوانات الضخمة ذات الحريم التي لا تتطلب تنافسًا بين الحيوانات المنوية. وكذلك عند الحيوانات المخلصة أحادية الزوجات مثل الجيبون. يدل وضع الإنسان في هذه الدراسة المسحية على أنه بعيد عن أنه يشبه قردة الشمبانزي، كما أنه لا يوجد ما يدل على أن نظام التكاثر في ماضي الإنسان التطوري فيه ما يشبه ما عند الغوريلا، أو أن فيه ما يشبه الجيبون المخلص في أحادية الزواج. على أن هناك أدلة تستمد من أبحاث الأنثروبولوجيا ومن وجود تباين في المورفولوجيا عند الجنسين من البشر هو تباين بسيط، ويطرح هذا مرة أخرى وجود تعدد للزوجات من البشر بدرجة بسيطة نوعًا. على أن هذه الاستنتاجات ينبغي ألا تستخدم لتبرير مواقف أخلاقية وسياسية معينة لها أحيانًا وجودها حاليًا. فما يوجد حاليًا في بعض الأمور لا يصح أن يُتخذ مبررًا لما «ينبغي» أن تكون عليه هذه الأمور.
من المعروف أن هناك عمليات انتخاب جنسي يستعرض فيها الذكور خصائصهم المورفولوجية أمام الإناث لتختار أفضل الذكور بالنسبة لها. الخصائص المورفولوجية هنا تؤثر في طرائق التكاثر والتزاوج. أشهر مثل لذلك هو عرض ذكور الطاووس لذيولها الجميلة أمام الإناث. الذكور ذات الألوان الأنصع والأبهى في ذيولها تكون أفضل صحة من غيرها وأقل إصابة بالأمراض والطفيليات، ويقع اختيار الإناث عليها في نظام حريم معكوس. أجرى بعض العلماء دراسات مقارنة بين أفراد البشر من حيث وجود علاقة بين بعض صفات الجسد الفيزيقية والقدرة على النجاح في التكاثر والانتخاب الجنسي، كبديل لدراسة وقياس الذيول عند الطاووس. قاس العلماء ما عند البشر من صفات مثل طول القامة بين الذكور وحجم بعض أعضاء الجسم كطول الأنف وطول القضيب نفسه. لم يثبت من هذه الدراسات أي علاقة ذات مغزى، ولا حتى مجرد احتمال إحصائي، بين القدرة على التكاثر وحجم هذه الأعضاء. كان يشيع فيما مضى حكايات عن وجود علاقة بين حجم الأنف وحجم القضيب أو القدرة الجنسية وأنها تتزايد معًا. لم يثبت أي من هذا علميًّا. العلاقة الوحيدة التي ثبتت للآن بين الأنف والجنس هي علاقة في الاتجاه السلبي. هناك متلازمة وراثية نادرة اسمها تناذر كالمان يحدث فيها أن تصاب خلايا الأنف الطلائية بعيوب وراثية تؤدي إلى قلة القدرة على الشم مصحوبة بانخفاض القدرة الجنسية. سبب ذلك أن بعض خلايا الأنف الطلائية لها دور في تنبيه إفراز الهرمونات الجنسية وذلك نتيجة اتخاذها لمسالك معقدة أثناء تناميها في الجنين وهجرتها بين المخ والأطراف الحسية.
أجريت مؤخرًا دراسات عن القدرة الجنسية لذكور الإنسان عمومًا، وثبت من هذه الدراسات وجود تدهور وضعف مستمر في الحيوانات المنوية التي تحمل الكروموسوم الذكري «واي». تمت دراسات مسح على النصف الأخير من القرن العشرين تبين منها أن الحد الأقصى لعدد الحيوانات المنوية قد نقص من 120 مليونا/مم ليصل إلى 50 مليونا/مم، أما الحد الأدنى فقد انخفض من 40 مليونا/مم إلى 20 مليونا /مم. قد يكون هذا نتيجة عوامل بيئية, مثل تلوث الطعام بالمبيدات الحشرية، أو الهرمونات الأنثوية التي تضاف لزيادة حجم الحيوانات والنباتات المغذية. وقد يرجع الضعف المتزايد للمني لعوامل ضعف وراثية متأصلة فيه تتزايد بمرور الزمن, ترى ما تأثير ذلك في نظام التكاثر والتزاوج. لو استمر هذا التدهور فربما يصبح الرجال عاجزين عن الإنجاب، وربما يلجأ البشر عندها للتكاثر بوسائل أخرى لا تتطلب الرجال ولا المني، كأن تُخصب البويضة بتلقيحها  ببويضة أنثى أخرى، وهذا أمر له مقدماته في أبحاث الاستنساخ وغيرها من الأبحاث. هكذا يتم الاستغناء عن دور الرجال في التكاثر والتزاوج، ويصبح دورهم الوحيد والرئيسي في الحياة هو إسعاد النساء في مجتمع أموي أو ماترياركي، والله أعلم.
------------------------------------
* أستاذ بالأكاديمية الطبية العسكرية - مصر.

http://www.alarabimag.com/science/Article.asp?Art=410&ID=15
هل أعجبك الموضوع؟ اذن شاركه مع اصدقائك!